شهدت الأغنية السعودية خلال العقدين الأخيرين تحولًا جذريًا، انتقلت فيه من مرحلة “القيمة الفنية المتراكمة” التي أرساها جيل الرواد، إلى مرحلة “المنتج السريع” الذي تحركه خوارزميات المنصات الرقمية وعلى رأسها “تيك توك”.
تحولٌ لم يمس الشكل الموسيقي فحسب، بل طال الجوهر والروح، وأعاد صياغة الذائقة العامة للمستمع السعودي.
جيل الرواد: الأغنية كقيمة فنية خالدة
منذ الخمسينيات وحتى نهاية التسعينيات، كانت الأغنية السعودية تُبنى على فكرة “العمل الخالد”، لا على فكرة الانتشار السريع.
كانت الكلمة هي القلب النابض، واللحن جسدها الذي يحملها نحو المستمع، اعتمد الرواد على الشعر العميق — سواء الفصيح أو النبطي — الذي حمل بصمات شعراء كبار مثل الأمير بدر بن عبد المحسن وخالد الفيصل وغيرهما.
لم تكن الأغنية تُنتج على عجل، بل على مهلٍ يليق بقيمتها. فالأعمال كانت تُصاغ كما تُصاغ التحف: بالاتقان والانتظار والتفكير.
يكفي أن نتذكر كيف كانت أغنيات طلال مداح ومحمد عبده تحتاج شهورًا بين الكتابة والتوزيع، لتخرج في هيئة قطعة موسيقية متكاملة تُعزف وتُغنّى لتعيش سنوات طويلة.
اعتمد انتشار الأغنية آنذاك على الإذاعة والتلفزيون ثم الكاسيت، وهي وسائل تتطلب جودة إنتاجية عالية وانضباطًا مؤسسيًا.
كان المستمع يستمع بوعي، يُنصت للجملة اللحنية ويُميز بين المقامات، ويتعامل مع الأغنية بوصفها تجربة وجدانية لا مجرد خلفية صوتية.
جيل التيك توك: الأغنية كمنتج رقمي سريع
مع دخول الألفية، بدأت ملامح جيل جديد تتشكل، جيلٌ لا ينتظر الأغنية، بل يطلبها بضغطة شاشة.
تحولت الأغنية من عمل فني إلى محتوى رقمي قصير يُصمم ليُنتشر، لا ليبقى. أصبح الإيقاع هو البطل، و”الهوك” — تلك الجملة اللحنية اللاصقة بالذهن — هو الطريق إلى الشهرة.
لم تعد الأغنية تُقاس بجمال كلماتها أو تفرّد لحنها، بل بعدد مشاهداتها ومشاركتها في “التحديات” على تيك توك وإنستغرام.
يكفي اليوم أن ينتشر مقطع من 20 ثانية حتى يصنع شهرة كاملة لفنان شاب، أو يعيد أغنية قديمة إلى الواجهة.
تغيّرت البنية التحتية بالكامل. فبدلًا من شركات الإنتاج الكبرى، أصبح الاستوديو في متناول كل فنان، وأصبح النجاح لا يحتاج إلى مدير أعمال أو ألبوم متكامل، بل إلى مقطع مؤثر وفكرة ذكية.
ومع هذا التحول، تغيّر أيضًا المستمع؛ لم يعد يبحث عن الطول والعمق، بل عن الجرعة السريعة من المتعة، في عالمٍ متسارع ومتشظٍ.
من روح الفن إلى خوارزمية الانتشار
تبدّلت المعادلة: من الإتقان إلى الارتجال، ومن البطء المدروس إلى السرعة الرقمية، جيل الرواد كان يلاحق الكمال الموسيقي، بينما جيل المنصات يلاحق الترند.
في الماضي كانت الأغنية مشروعًا فنيًا متكاملاً، واليوم أصبحت تجربة آنية تبحث عن أثرٍ لحظي.
ومع تراجع دور شركات الإنتاج، تلاشت البيئة المنظمة التي كانت تصنع نجومًا كبارًا، لتحل محلها سوق مفتوحة لكل من يملك ميكروفونًا وهاتفًا ذكيًا.
لكن المفارقة أن هذه “الفوضى الرقمية” أتاحت فرصًا جديدة؛ إذ بات كثير من الفنانين السعوديين يحققون جمهورًا عالميًا، حتى أن بعضهم يستمد أكثر من 90% من استماعاته عبر المنصات من خارج المملكة.
بين الأصالة والسرعة… أيهما ينتصر؟
رغم المخاوف من فقدان “روح الطرب”، إلا أن الواقع يكشف أن الجيل الجديد يحاول إيجاد توازنٍ جديد.
جيل الرواد صنع الفن الذي يعيش، وجيل “التيك توك” يصنع الفن الذي يتحرك — وكلاهما يعكس ملامح زمنه.
وربما تكون المرحلة المقبلة هي المصالحة بين القيمتين: عمق الرواد وسرعة العصر، ليبقى للأغنية السعودية جوهرها الأصيل مهما تغيّرت الأشكال.